
انتشر على وسائل التواصل تسجيل لمحادثة بين جمال عبد الناصر ومعمر القذافي سنة 1970.
هذا التسجيل ليس "تسريباً" لأنه من توثيق عبد الناصر نفسه، ثم نشرته على اليوتيوب مجموعة من محبّي عبد الناصر والمحافظين على إرثه.
بعض فاقدي البوصلة التاريخية (وهم كثر) تناولوا المحادثة بسطحية، وكأن لحظة بوح عابرة خارج سياقها، تختصر إرث رجلين كانا في قلب معركة الأمة العربية الكبرى.
بينما كل ما باح به عبد الناصر قاله علناً في عدة خطابات رسمية ولقاءات إعلامية مصرية وعالمية (مثل حواره المعروف مع التلفزيون الدانماركي حينها).
وتبقى الحقيقة أوسع، أعمق:
عبد الناصر والقذافي لم يكونا مجرد متحدثين... بل كانا مقاتلين في معركة طويلة النفس من أجل الكرامة العربية.
🔹 أولاً: معمر القذافي... شاب الثورة العربية الذي واصل القتال حتى الشهادة.
عندما دار هذا الحوار، كان معمر القذافي في السابعة والعشرين من عمره،
قائداً لثورة أطاحت بالملكية الفاسدة، وطردت الاستعمار البريطاني والأمريكي من ليبيا في سنة واحدة، وأعاد موضعة البلد لصالح المعركة.
كان مفعماً بالحماس، يدعو لحرب عربية شاملة لتحرير فلسطين تحت عنوان "قومية المعركة".
ولكن الأهم:
أن حماسة القذافي لم تكن عاطفة عابرة.
دعمَ المقاومة الفلسطينية واللبنانية بشكل غير مسبوق،
ساند الثورات التحررية في العمق الإفريقي للعروبة،
أسس بقيادة تكاد تكون فردية الاتحاد الإفريقي العظيم.
صمد في وجه العدوان الغربي،
واستشهد مقاتلاً على أرض ليبيا في 2011 وهو يقاوم حلف الناتو، الحلف العدو الأول لأمتنا.
القذافي كان مشروع مقاومة مستمر حتى النفس الأخير.
🔹 ثانياً: جمال عبد الناصر... القائد الذي بنى أمة.
أما جمال عبد الناصر، فحين دار الحوار، كان يقف فوق جراح هزيمة 1967،
لكنه لم يتراجع ولم يتنازل، بل كان يحمل مشروعاً حضارياً كاملاً:
وحدة عربية سياسية واقتصادية وعسكرية.
تحرير وطني شامل لكل شعوب الجنوب العالمي،
بناء ذاتي للأمة عبر التصنيع والاستقلال الزراعي والتعليمي.
بنى السد العالي.
أنشأ عشرات المصانع الكبرى.
جعل التعليم والصحة مجاناً.
حافظ على الجنيه المصري ليصبح عملة سيادية وطنية.
وترك مصر خالية من الديون، قوية صناعياً وزراعياً.
مات عبد الناصر... لكن مصر كانت أقوى وأكرم مما عرفها العالم منذ قرون.
🔹 ثالثاً: ماذا كان يفعل عبد الناصر فعلياً حينها؟
هنا يظهر السياق الحقيقي للمحادثة:
بحسب دراسات موثقة (عربية وغربية) عن ملحمة بناء حائط الصواريخ المصري، كان عبد الناصر يتحرك عسكرياً بسرعة قياسية منذ بداية 1968:
يبني شبكة دفاع جوي شاملة،
يدفع بالصواريخ إلى الضفة الغربية لقناة السويس،
يضع الأساس لعبور الجيش المصري لاحقاً إلى سيناء.
في نفس الوقت، كان يستخدم خطاباً سياسياً محسوب السقف عن السلم وإمكانياته، ليس ضعفاً، بل مناورة ذكية لشراء الوقت لبناء القوة.
🔹 رابعاً: مبادرة روجرز والاتهامات الباطلة
عندما قبل عبد الناصر بمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار،
تعرض لهجوم شرس من بعض الأنظمة العربية صاحبة "المزايدات".
اتهموه بالخضوع والخيانة.
لكن الحقيقة كانت مختلفة تماماً:
وقف إطلاق النار كان ضرورة عسكرية لبناء شبكة الدفاع الجوي.
كان حمايةً للمنشآت المدنية والصناعية المصرية.
وكان خطوةً استراتيجية لتحضير الهجوم المستقبلي لتحرير سينا.
بل إن الصحف الأمريكية نفسها حذرت في أغسطس 1970 أن الجيش المصري أصبح مستعداً لعبور قناة السويس في أي لحظة عند انتهاء الهدنة.
🔹 خامساً: الحوار مع القذافي... فضفضة الغاضب الصبور
في هذا الحوار، عبد الناصر كان يفضفض مع القذافي:
يشتكي من المزايدات الرخيصة لبعض العرب.
يحكي عن الخيانات والغدر:
أنهم كانوا "بيسخنوه" للحرب قبل تمام التعبئة العسكربة... ثم يتركوه وحده في وجه المدفع... بل ويصطفون مع أمريكا وإسرائيل ضده.
وفي لحظة صادقة يقول إنه لو أراد السلام الدائم مع إسرائيل، لقبل عرض جولدا مائير بأخذ سيناء مقابل اتفاقية، و "انتهى الموضوع".
"لكنني لم ولن أفعل"... لأنه كان يريد استعادة الأرض العربية كلها.
🔹 سادساً: عبد الناصر وموقفه الثابت حتى النهاية
كان عبد الناصر قد أعلن في قمة الخرطوم لاءاته الثلاث:
لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بالعدو الصهيوني.
وبعد المحادثة واصل حرب الاستنزاف بلا توقف.
أعد جيشه للعبور الحقيقي الذي بدأ التخطيط له وتنفيذه بجدية.
لم يَحِد عبد الناصر عن القضية.
لم يساوم على شرف المعركة.
قاتل حتى آخر رمق، واستشهد واقفاً وهو يحاول حقن الدم العربي الذي نزف ساعتها في الأردن.
🔹 سابعاً: خيانة الأنظمة وتخاذل الشعوب
عبد الناصر لم يُخذل بانهيار قواته، بل خُذل حين تواطأ بعض الحكام العرب:
خافوا على عروشهم.
اصطفوا مع قوى الاستعمار.
خانوا القضية الفلسطينية.
وخُذل أيضاً بشعوب استسلمت بسهولة للطائفية والمذهبية وغسيل الإعلام المسموم.
🔹 ثامناً: الإرث الذي لا يموت
ما بين عبد الناصر والقذافي،
كان هناك جدلية الحكمة والثورة،
العقل والبندقية،
الصبر والهجوم.
كلاهما حملا مشروع تحرير ووحدة وبناء ذاتي،
كلاهما دفعا حياتهما ثمناً للأمة.
ولا تزال الأمة اليوم، رغم الجراح، تحلم بما زرعاه:
أمة واحدة، حرة، منتصرة.
لا تستمعوا لفاقدي البوصلة الذين يختصرون عبد الناصر والقذافي في فهمهم السقيم لمكالمة فيها بوح بالغضب والمرارة من الأنظمة العربية.
فعبد الناصر والقذافي معركتان مفتوحتان في قلب الأمة.
وسيبقى وعدهما قائماً... حتى يتحقق التحرير الكامل.
موسى ابراهيم