
بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على الحرب الطاحنة في قطاع غزة، بدأ العديد من دول العالم بتغيير مواقفه السياسية تجاه القضية الفلسطينية. فقد أعادت عملية ٧ تشرين الأول البطولية القضية الفلسطينية عالمياً إلى الواجهة من جديد، حيث قامت قوات العدوان الصهيوني بقصف البيوت والمدارس والمستشفيات والكنائس والمساجد وكل ما يمتّ إلى الحياة بصلة، وبات من المعروف أنه ليس هنالك مكان آمن في قطاع غزة.
واستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار بشأن دعوة إلى (وقف فوري لإطلاق النار لدواعٍ إنسانية) في قطاع غزة. وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وجّه رسالة إلى مجلس الأمن استخدم فيها المادة 99 من ميثاق المنظمة الأممية التي تتيح له (لفت انتباه) المجلس إلى ملف (يمكن أن يعرّض السلام والأمن الدوليين للخطر)، في أول تفعيل جدي لهذه المادة منذ عقود طويلة.
غير أن المساعدة الأمريكية للكيان الصهيوني كان لها دور كبير في استمرار العملية العسكرية الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث قالت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية: إن حجم المساعدات العسكرية أكبر بكثير مما جاء في القوائم والتقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات الأميركية الملتزم بها للكيان الصهيوني في الفترة ذاتها نحو 260 مليار دولار أمريكي.
ليس هذا فحسب، بل دفعت الولايات المتحدة بحاملات طائراتها ومدمّراتها وطراداتها العسكرية وإحدى غواصاتها النووية إلى البحر الأبيض المتوسط دعماً للكيان، وردعاً لأي دولة تدعم المقاومة الفلسطينية حسب زعمها.
وحسب تصريحات عدد كبير من المسؤولين الصهاينة، فإنّ الحرب في قطاع غزة يمكن أن تنتهي بشرط تسليم قادة حركة حماس أنفسهم إلى جيش العدوان الصهيوني وإعادة الأسرى.
وعلى الرغم من أنّ المعطيات الميدانية تؤكّد أن فصائل المقاومة الفلسطينية تستمر بالقتال البري لصد جيش الكيان وتدمير دباباته وآلياته العسكرية وقتل وإصابة الضباط والجنود الصهاينة، إلّا أنه حتى الآن ما زالت المعركة غير محسومة، وخاصة مع التدهور الكبير لحالة الشعب الفلسطيني وتراجع الأوضاع الإنسانية لأكثر من مليونين وثلاثمائة ألف مواطن فلسطيني في قطاع غزة.
لقد أفرزت الحرب الوحشية والمجازر البشعة ضد الشعب الفلسطيني الكثير من القضايا المهمّة، وظهرت تفاصيل كثيرة رسمت ملامح جديدة للصراع العربي- الصهيوني، تردّد صداها بشكلٍ واسع على المستويات المحلي العربي والإقليمي والعالمي، وأعاد القضية الفلسطينية ووخاصة غزة إلى الواجهة العالمية في مكان يُعرف بأنه أكبر سجن مفتوح في العالم منذ أكثر من أربعة عشر عاماً.
فقد انتهج الكيان الصهيوني أسلوب الحصار والعقاب الجماعي لسكان القطاع، وقيّدت الصادرات والواردات وحركة المدنيين داخل قطاع غزة وخارجه، الذي يبلغ عدد سكانه حوالي مليونين وثلاثمائة ألف نسمة، في استراتيجية ندّدت بها منظمات حقوق الإنسان لانتهاكها حقوق الإنسان والقانون الدولي.
إن ما جرى يؤكد أنه لن يعود توازن القوة في القمة الدولية إلى ما كان عليه قبل نحو ثلاثة أشهر، ولن تعود المكانة في النظام الإقليمي العربي إلى سابق عهدها، ولن تستعيد الحركة الصهيونية بعض -وربما أكثر- ما فقدته من أهمية وقدسية ونفوذ وسيطرة في كثير من دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية نتيجة تهوّر وتعصّب السياسيين والعسكريين في الكيان.
وفي هذا السياق لا يمكننا إغفال حقيقة أن الحرب الوحشية ضد فلسطين والشعب الفلسطيني لا بدّ أن تمسّ دولاً عربية وإقليمية في الجوار للضرورة التي تفرضها قواعد الاشتباك المتوارثة والتقليدية في هذه المنطقة. وبالتالي هي حرب إجرامية بشعة توصف بعملية الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بكل أنواع الأسلحة ضد فلسطين وشعبها وضد جاراتها الأقرب وحتى الأبعد، وهي حرب دموية كغيرها من الحروب الكبرى في التاريخ البشري، وهي حرب كاشفة وفاضحة عن نهاية مرحلة سياسية.
لا شكّ أن وجود الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب كان أحد العناصر اللازمة والمهمة لتثبيت صفة الحرب الكبرى على عديد الأعمال الهجومية والعدوانية الهمجية ضد الشعب الفلسطيني خلال الأسابيع الأخيرة. فهذا الوجود لم يكن عفوياً على الإطلاق، وهناك ما يثبت وجود تواطؤ واضح في حال وجدت الحرب طريقها إلى محكمة دولية ذات يوم في المستقبل وتحديداً محكمة لاهاي. وقد تعدّدت أركان وقواعد وأسس هذا التواطؤ، حيث كانت التصريحات الرسمية عن اشتراك الرئيس الأمريكي جو بايدن في جلسة لمجلس الحرب الصهيوني في الساعات الأولى من نشوب هذه الحرب الدامية، واطّلع بنفسه على خطط تجهّز للتخلص من الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة وإجلاء آخرين. لم يقتصر الأمر على موقف الرئيس الأمريكي، إذ إن وزير خارجيته أنتوني بلينكن أساء إلى سمعة الدبلوماسية الأمريكية بشكلٍ خطير حين تعمّد التعريف بنفسه كيهودي الديانة في أول زيارة له بعد نشوب الحرب الدموية إلى الشرق الأوسط حيث قال: “لم آتِ إلى المنطقة بصفتي وزير خارجية الولايات المتحدة بل بصفتي يهودياً”. هذا التصريح الخطير أثار قلقاً مبرّراً داخل وزارة الخارجية الأمريكية التي تعاني منذ سنوات سلوكيات تمييز عرقي وديني بشكلٍ مكثف، مثلها مثل أجهزة ومؤسسات أخرى في الدولة الأمريكية التي تسير وفق نظام سياسي مدروس ومحكم، حيث إنه من الواضح أن هذه المعاناة الساكتة وجدت ما يشجّعها ويساندها في قرار وزير الخارجية بلينكن غير المسبوق حسب ما تم التصريح له وهو إرسال أسلحة إلى الكيان الصهيوني من دون العودة إلى الكونغرس وأخذ الموافقة منه، بعيداً عن وعي الرأي العام للشعب الأمريكي.
لم تتوقف تصريحات كبار المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية عن التأييد الأعمى للكيان الصهيوني وعملياته الإجرامية بحق النساء والشيوخ والأطفال المدنيين العزل. فقد أكّدت مئات الطائرات التي تحمل الأسلحة والذخائر الأمريكية أنّ الولايات المتحدة الأمريكية في نظر التاريخ كانت طرفاً في أحدث عملية إبادة بشرية (جينوسايد)، وتخلّت بشكل طوعي عن فكرة (السلم الدولي) وأنها فقدت رعايتها لفكرة (حقوق الإنسان والشرعية الدولية) وهي تساهم في أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ الحديث.
إنّ اشتراك الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب التي يشنّها العدو الصهيوني على الشعب الفلسطيني يؤكد وصول سمعتها ومكانتها إلى أبعد مدى من السوء، فقد صارت على المحك (إنسانية) الولايات المتحدة الأمريكية وديمقراطيتها، وبشكلٍ خاص بعد التعتيم على قرار تزويد الكيان بأسلحة فتاكة تزن عدة أطنان في غمار حملة إبادة جماعية صريحة ومتعمّدة. وفي ظل أخطر عملية تطهير عرقي أيضاً صار يقيناً شك دول جنوب الكرة الأرضية في انتهاج الولايات المتحدة الأمريكية سياسة القيم المزدوجة والكيل بمكيالين، ولن يمر علينا مرور الكرام قرار حكومة جنوب إفريقيا اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي شاكية أعمال الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني الجارية على الأرض الفلسطينية.
هذا القرار يعني أن إفريقيا جديدة تحاول إثبات وجودها من جديد واستعادة حقوقها المنهوبة والتمرّد على تقاليد الهيمنة وخاصة أنها تعرّضت لأخطر عملية تمييز عنصري في التاريخ السياسي الحديث. ليست دولة جنوب إفريقيا وحدها بل نجد العديد من الحركات غير العادية في أمريكا الجنوبية وخاصة في البرازيل والمكسيك.
لقد أجمع المراقبون والخبراء والاستراتيجيون على أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت بالانحدار بشكلٍ متسارع، حيث فقدت مفهوم (السلم الأمريكي) وبدأ يتدحرج فاقداً البوصلة والتوجّه والهدف الذي رسمته في دستورها ونظامها السياسي، وهو تحقيق الديمقراطية والدفاع عن القضايا الإنسانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكنها استمرّت منحدرة باتجاه الفاشية والنازية المتوحشة وتثبيت فكرة التمييز العنصري.