
بداية كاتب هذه السطور مصري وطني من أبناء الطبقة الوسطى، يحترم نضال الشعب المصري وتطلعه للحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية قبل ثورة ١٩٥٢، ويؤيد بوعي تاريخي واجتماعي وسياسي ثورة يوليو ١٩٥٢، ويؤمن بمشروعيتها، وبشرعية النظام الجمهوري في مصر الذي تأسس عليها. ويحترم وىؤيد مشروع الدولة الوطنية التي تأسست على شرعية ثورة يوليو، وكافة مؤسساتها الوطنية ذات التاريخ والدور الوطني العريق. كما يحترم في النهاية شخصية وسيرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ودوره الوطني في تاريخ مصر المعاصرة.
وبناء على ذلك أسأل نفسي احيانا: لماذا يكره بعضهم عبد الناصر كل هذه الكراهية، ولماذا لا ينظرون إليه بموضوعية كزعيم سياسي جاء في ظرف وطني وإقليمي وعالمي خاص وفي سياق تاريخي كان يتم فيه إعادة تشكيل المنطقة والعالم، واجتهد بدوافع وطنية خالصة في إدارة البلاد وحكمها، وأصاب وأخطأ.
وفي ضوء هذه الموضوعيه يمكن القول إنه قائد وزعيم تاريخي له ما له وعليه ما عليه، وأن تجربته بحاجة مستمرة لإعادة القراءة والتحليل والنقد، لنعرف فيما أخطأ وفيما أصاب، وما هي النقاط غير القابلة للهدم في تجربته التي يجب تكريس حضورها والبناء عليها؟ وما هي النقاط التي يجب الاعتراف بأنه أخطأ فيها، وبالتالي رفضها واستبعادها، كي لا نُعيد إنتاج أخطاء الماضي مرة أخرى.
لكن المفارقة العجيبة الجديرة بالملاحظة أن بعض الكارهين لعبد الناصر، الناقدين بإطلاق لشخصه وخياراته وتجربته، قد استفادوا كثيرًا من ثورة يوليو وسنوات حكم عبد الناصر وسياساتها وخياراتها، وبعضهم قد تغنى بشخص وبطولة عبد الناصر في حياته. وبعضهم كان من رجال الدولة في عهده وفي العهود اللاحقة عليه. وبالتالي فهم لا ينتمون إلى خصوم عبد الناصر التاريخيين من جماعة الإخوان المسلمين، ولا أبناء الطبقة الحاكمة قبل ثورة يوليو أو من تضرروا من قوانين الإصلاح الزراعي أو التأميم.
وفي محاولتي لفهم دوافع كراهية هؤلاء لعبد الناصر، ومعرفة جذورها وأسبابها، وجدت أننا لا نحتاج لتحليل سياسي، ولكن لتحليل نفسي، لمعرفة كيف ولماذا صار عبد الناصر يمثل لهم عقدة نفسية، يمكن أن تُدرج في كتب علم النفس السياسي، تحت اسم "عقدة عبد الناصر".
ويمكن القول إن أهم دوافع كراهيتهم (النفس/سياسية) لجمال عبد الناصر، ومحاولتهم المستمرة لتشويه صورته ورمزية حضوره في الوجدان والتاريخ المصري، هو انحيازه الدائم للبسطاء من أبناء هذا الشعب، واحساسه بمعاناتهم، وإيمانه بحقهم في أن يكون لهم نصيبًا في خيرات بلادهم.
وأنه السياسي والحاكم المصري الذي جاء من قلب الشعب، و لم يخُن بعد وصوله للحكم طبقته التي جاء منها، وأحلام الناس فيه.
كما لم تأخذ بعقله وقلبه أبهة السلطة وبريقها ووجاهتها، فعمد إلى فصل نفسه عن هموم الناس وأحلامهم وواقع حياتهم، ليعيش عيشة الملوك في القصور، كما فعل غيره من الرؤساء ورجال الدولة من أبناء الفلاحين والبرجوازية العليا والرثة، الذين جعلوا من الحكم والعمل السياسي مطية للارتقاء الطبقي، وصنع الثروة، والدخول في رحاب الطبقة المخملية.
ومن دوافع كراهيتهم لعبد الناصر أيضًا، أنه امتلك إيمانًا مطلقًا بعظمة تاريخ وحضارة وموقع هذا الوطن، وإيمانًا بمكانته ودوره الفاعل والمؤثر في المنطقة العربية والمحيط الإفريقي، وربما في العالم.
ومن أسباب كراهيتهم أيضًا لعبد الناصر، أنه كان إنسانًا وحاكمًا غير قابل للشراء أو الإغواء أو الفساد؛ ويؤكد ذلك ما جاء في كتاب "التقدم نحو القوة" الذي كتبه رجل المخابرات الأمريكية "يوجين جوستين" وقال فيه:
"إن مشكلتنا مع ناصـر أنه رجل بلا رذيلة ، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للـتجريح؛ فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يـمـكـن شـراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه.
ولذلك فنحن نكرهه ككل ولكننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجاهه لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد، ولذلك فهو خصمٌ محترمٌ بشكل غير عادي".
وأكد تلك الحقيقة الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه الشهير "محاوراتي مع السادات"، عندما روى ما ذكره له الدكتور علي الجريتلي - وهو واحد من أنبغ خبراء مصر الاقتصاديين - في سياق حديثه مع "أحمد بهاء الدين" عن نزاهة الرئيس عبد الناصر، عندما قال:
"لقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأي فساد ... وبعد موت عبد الناصر بسنة تقريبًا، كنت في مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية، وإذا به يقول لي: إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية قد هلكتنا شهورًا طويلة.
وسألته: لماذا؟
فقال لي الرجل السويسري: لقد حاولوا بأي طريقة العثور على أي حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا.
ومع ذلك يبقى هناك سبب خفي لكراهية عبد الناصر، وللعقدة التي صار يمثلها حضوره عند الكثير من خصومه.
وهذا السبب الخفي يكمن في رغبة بعضهم في نقد دور الجيش المصري في الحكم، الذي بدأ مع ثورة يوليو، والذي يطلقون عليه "عسكرة الدولة" وتمكين العسكريين على حساب المدنيين.
وهؤلاء هم الأكثر خطورة من غيرهم، لأنهم مدعمون بإمكانيات ضخمة من الداخل والخارج منذ سبعينات القرن الماضي، وهَدفهم تقويض شرعية ثورة يوليو ١٩٥٢ التي استظلت بها أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر، وتَشويه التجربة الناصرية بالكامل في الوجدان والتاريخ المصري، وضرب الدور الوطني للمؤسسة العسكرية في التاريخ المصري، وإثبات فشل مشروع الدولة الوطنية المصرية التي تأسست على شرعية ثوة يوليو، والتأسيس لشرعية جديدة بلا قوة حقيقية، وبلا خيارات وملامح وطنية.